كيف تختار الشريك المناسب تبعاً لدراسات التحليل النفسي؟
اختيار الشريك المناسب يعد من القرارات الأكثر أهمية في حياة الإنسان، إذ يرتبط به بناء علاقة عاطفية وصحية قد تستمر مدى الحياة. لذلك، فإن اتخاذ هذا القرار يتطلب فهماً عميقاً لشخصية الطرف الآخر، فضلاً عن الوعي بالاحتياجات والرغبات الشخصية. من خلال دراسات التحليل النفسي، يمكننا اكتساب فهم أعمق لآليات اختيار الشريك المثالي، والتعرف على العوامل النفسية التي تؤثر في هذا الاختيار.
1. مفهوم التحليل النفسي وتأثيره على الاختيار
التحليل النفسي هو نظرية وتطبيق علمي طوره سيغموند فرويد، وهو يعنى بدراسة العقل الباطن وتفسير سلوكيات الأفراد بناءً على معارف لا واعية. واحدة من المبادئ الأساسية في التحليل النفسي هي أن السلوك البشري يتأثر بشكل كبير بالعوامل النفسية غير الواعية. وبالتالي، يمكن للإنسان أن يختار شريكاً بناءً على مجموعة من العوامل اللاشعورية التي تتعلق بتاريخ الطفولة، والعلاقات الأسرية السابقة، والتجارب الشخصية المؤثرة.
تعتبر عملية الاختيار بشكل عام معقدة للغاية وتتضمن العديد من العوامل النفسية والوجدانية، حيث يتداخل الوعي مع اللاوعي لتوجيه الفرد نحو شخص يعتقد أنه يتناسب مع احتياجاته العاطفية والنفسية.
2. الاحتياجات العاطفية والتجارب السابقة
من خلال التحليل النفسي، يظهر أن الأفراد يميلون إلى اختيار شركاء يعكسون أو يكملون تجاربهم العاطفية السابقة. على سبيل المثال، قد يختار الشخص شريكاً يشبه أحد الوالدين سواء في ملامحه أو في سلوكياته، وذلك بناءً على الارتباطات النفسية التي تكونت في الطفولة. في بعض الأحيان، قد يكون هذا الاختيار ناتجاً عن رغبة في استعادة أو تصحيح تجربة سابقة، وهو ما يعرف في التحليل النفسي بـ “التكرار القهري”.
التكرار القهري هو نوع من الأنماط السلوكية التي تتكرر في حياة الفرد نتيجة لتجارب الطفولة. هذه الأنماط تظهر في اختيار الشريك أو في التعامل معه، إذ يشعر الفرد أنه يعيد العيش في تجربة عاطفية مشابهة لتلك التي مر بها في الماضي. إذا كانت تجربة الطفولة مليئة بالحب والدعم، فإن الشخص قد يسعى إلى إيجاد شريك يتسم بالصفات التي يحبها في والديه. أما إذا كانت التجربة سلبية، فقد يبحث الفرد عن شريك يعيد إنتاج هذه التجربة، مما يؤدي إلى علاقات غير صحية ومؤذية في بعض الأحيان.
3. الأنا العليا واللاوعي في الاختيار
وفقاً للتحليل النفسي، يتحكم في سلوك الإنسان ثلاثة جوانب رئيسية هي: “الأنا”، “الأنا العليا”، و”الهو”. الأنا تمثل الذات الواعية التي تحاول الموازنة بين الرغبات والواقع. أما الأنا العليا، فهي تمثل المبادئ الأخلاقية والضوابط الاجتماعية، بينما يمثل “الهو” الرغبات البدائية وغير المقيدة. يمكن أن يكون الاختيار العاطفي للشريك محكوماً بتأثيرات الأنا العليا التي تسعى إلى إيجاد شخص يتناسب مع قيم وأخلاقيات الفرد، بينما قد يكون للهو دور أيضاً في اختيار شريك يتوافق مع رغباته العاطفية والجنسية.
بالإضافة إلى ذلك، تلعب الذات اللاواعية دوراً مهماً في عملية الاختيار. ففي بعض الأحيان، قد يختار الفرد شريكاً بناءً على سمات غير واعية، مثل الأمان العاطفي أو الاعتماد على الطرف الآخر في تحقيق التوازن النفسي.
4. الانجذاب العاطفي والذكاء العاطفي
من خلال الدراسات النفسية الحديثة، تم التأكيد على أهمية الذكاء العاطفي في اختيار الشريك المناسب. الذكاء العاطفي هو القدرة على فهم وإدارة العواطف الخاصة بالشخص وأيضاً العواطف لدى الآخرين. الأشخاص الذين يمتلكون درجة عالية من الذكاء العاطفي قادرون على التعامل مع مشاعرهم بشكل أفضل، ما يسمح لهم بتحديد العلاقات الصحية والمناسبة التي تدوم.
يعتبر الانجذاب العاطفي أحد المحركات الأساسية لاختيار الشريك، ولكن هذا الانجذاب ليس فقط مسألة منطقية أو عاطفية بسيطة، بل يتأثر بالكثير من العوامل النفسية، مثل الحاجة إلى الاعتراف الشخصي أو الاحترام المتبادل. في الكثير من الأحيان، يكون الانجذاب العاطفي أحد الطرق التي يعبر بها الفرد عن حاجته لشريك يوفر له الأمان العاطفي والاستقرار النفسي.
5. أنماط العلاقة وديناميكيات التحكم والتوازن
من خلال التحليل النفسي، يمكن فهم كيفية تأثير أنماط العلاقة في اختيار الشريك. ففي بعض الحالات، قد يختار الأفراد شركاء يكون لديهم أنماط سلوكية متشابهة مع الأفراد الذين تعاملوا معهم في الطفولة، مما يعزز رغبتهم في بناء علاقة قائمة على الألفة والتوازن. في المقابل، قد يتعرض البعض لمخاطر الارتباط بشريك يتسم بسلوكيات سلبية أو مدمرة نتيجة لتكرار الأنماط العاطفية غير الصحية.
الديناميكيات بين الطرفين في العلاقة تساهم أيضاً في تحديد ما إذا كانت العلاقة صحية أو سامة. العوامل النفسية مثل الاعتمادية، الخوف من الرفض، أو الخوف من التقارب العاطفي قد تؤدي إلى بناء علاقات غير متوازنة. من الضروري أن يدرك الشخص هذه الديناميكيات وأن يعمل على تحسين وعيه الذاتي حول احتياجاته النفسية والعاطفية لتجنب الوقوع في علاقات مدمرة.
6. نظرية التعلق وعلاقتها باختيار الشريك
نظرية التعلق التي طورها جون بولبي، تشير إلى أن نوعية العلاقة بين الطفل ووالديه تؤثر بشكل كبير في تطور أنماط التعلق التي تبرز في علاقات البالغين. وفقاً لهذه النظرية، يمكن تقسيم الأشخاص إلى أربعة أنواع رئيسية من التعلق: التعلق الآمن، التعلق المتجنب، التعلق القلق، والتعلق المختلط. الشخص الذي ينشأ في بيئة توفر له الحب والأمان العاطفي غالباً ما يطور نمط تعلق آمن، مما يجعل اختياره للشريك مستنداً إلى الثقة المتبادلة والاحترام.
أما الأشخاص الذين ينشأون في بيئات غير مستقرة عاطفياً، فقد يطورون أنماط تعلق غير آمنة، مثل التعلق القلق أو المتجنب، مما يؤدي إلى اختيار شريك يعكس هذه الأنماط السلوكية. على سبيل المثال، قد يبحث الشخص الذي يعاني من التعلق القلق عن شريك يوفر له الرعاية المستمرة ولكنه يشعر بعدم الأمان المستمر في العلاقة، مما يعقد عملية الاختيار ويزيد من الشعور بالتوتر والقلق.
7. مراحل التعرف على الذات وأثرها على الاختيار
اختيار الشريك المناسب يتطلب أولاً التعرف الجيد على الذات، وهو ما يشير إليه التحليل النفسي باعتباره عملية من “التحليل الذاتي” التي تساهم في تطوير الوعي الذاتي وفهم الرغبات النفسية والعاطفية. في هذا السياق، ينصح التحليل النفسي بأن يكون الشخص على دراية تامة بما يحتاجه في العلاقة من الحب والدعم النفسي.
فهم الذات يسهل عملية الاختيار لأن الشخص سيكون أكثر قدرة على تحديد الشريك الذي يتناسب مع قيمه واحتياجاته العاطفية. هذه العملية تتطلب الوعي الكامل بما يقدره الفرد في العلاقة، وما يرفضه، مما يساعد في بناء علاقة صحية ومبنية على الاحترام المتبادل.
8. الخلاصة
اختيار الشريك المناسب ليس مجرد مسألة عاطفية أو عقلانية، بل هو عملية نفسية معقدة تتداخل فيها العديد من العوامل النفسية والوجدانية. من خلال دراسات التحليل النفسي، يتضح أن الاختيار يعتمد على مجموعة من العوامل مثل الخبرات العاطفية السابقة، أنماط التعلق، الأنا العليا، والذكاء العاطفي. إضافة إلى ذلك، تعد الوعي الذاتي والتعرف على الاحتياجات النفسية والعاطفية أساسية لضمان اختيار شريك يتناسب مع تطلعات الفرد ويبني علاقة صحية ودائمة.
